سورة السجدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


قلت: {تنزيل}: إما خبر عن (الام)، إن جُعِلَ اسماً للسورة، أو: خبر عن محذوف، أي: هذا تنزيل. أو: مبتدأ، خبره: {لا ريب فيه}. وعلى الأول {لا ريب}: خبر بعد خبر، و{من رب العالمين}: خبر ثالث. أو: خبر عن {تنزيل}، و{لا ريب فيه}: معترض. والضمير في {فيه}: راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي: كونه منزلاً من رب العالمين، و {أم}: منقطعة بمعنى: {بل}.
يقول الحق جل جلاله: {الام}؛ أيها المصطفى المقرب، هذا الذي تتلوه هو {تنزيلُ الكتاب لا ريبَ فيه}، لأنه معجز للبشر، ومثله أبعد شيء عن الريب، وهو {من ربِّ العالمين} لا محالة. {أم يقولون افتراه}، أي: اختلقه محمد من عنده، وهو إنكار لقولهم، وتعجيب منه؛ لظهور أمره في عجزهم عن الإتيان بسورة منه. قال تعالى: {بل هو الحقُّ} الثابت {من ربك}، ولم تفتره، كما زعموا؛ تعنتاً وجهلاً، أنزله عليك {لتُنذر قوماً} أي: العرب، {ما أتاهم من نذير من قَبلك}، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى- عليهما السلام- {لعلهم يهتدون} إلى الصواب من الدين. والترجي مصروفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] مصروفاً إلى موسى وهارون.
الإشارة: (الام) الألف: أَلِفَ المحبون قُربى، فلا يصبرون عني. اللام: لمع نوري لقلوب السائرين، فزاد شوقهم إليّ. الميم: مَلَك الواصلون ملكي وملكوتي، فلا يغيبون عني. تنزيل الكتاب، إذا طال أمد لقاء الأحباب، فأعزّ شيء على المحبين كتاب الأحباب. أنزلت على أحبابي كتابي، وحَمَلتْ إليهم بالرسل خطابي، ولا عليهم إن قرع أسماعَهم عتابي، فإنهم مني في أمان من عذابي. {أم يقولون افتراه}، إنكار الأعداء على المحبين سُنَّة لازمة. فإن أُلبِسَ الحق على الأعداء فلا يضركم، ولا عليكم، فإنَّ صحبة الحبيب للحبيب أَلَدُّ ما تكون عند فقد الرقيب. قاله القشيري.


يقول الحق جل جلاله: {اللهُ الذي خلق السماوات والأرضَ وما بينهما في} مقدار {ستةِ أيام ثم استوى على العرش} أي: استولى بقهريه ذاته. وسئل مالك عنه، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عن هذا بدعة. اهـ. ولم تتكلم الصحابة على الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك: السؤال عنه بدعة. وسيأتي شيء في الإشارة. {ما لكم من دونه}؛ من دون الله {من وليٍّ ولا شفيعٍ} أي: إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً، أي: ناصراً ينصركم، ولا شفيعاً يشفع لكم، {أفلا تتذكرون}؛ تتعظون بمواعظ الله.
{يُدبّرُ الأمرَ} أي: أمر الدنيا. وما يكون من شؤونه تعالى في ملكه، فهو كقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، أي: يُبديه لا يبتديه. وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي، الجزئي، لا الكلي، فإنه كان دفعة. يكون ذلك التدبير {من السماء إلى الأرض}، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، نازلة آثارها إلى الأرض. {في يوم كان مقداره ألفَ سنةٍ مما تعدُّون} من أيام الدنيا.
قال الأقليشي: جاء في حديث: «إن بُعد ما بين السماء والأرض، وما بين سماء إلى سماء، مسيرة خمسمائة سنة» وفي حديث آخر: «إن بين ذلك نَيِّفاً وسبعين سنة»، وإنما وقع الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة. وإن سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل: من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل، وعليه يخرج قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}. وقال في آية أخرى: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]. وهكذا الوجود مَنْ علوه إلى سفله، مِنْ الملائكة من يقطعه في مدةٍ ما، ويقطعه غيره في أكثر منها أو أقل. اهـ. وقيل: المعنى: أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر، فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل: إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفاً، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية، فقال: يُدبر الأمر في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة. ويوم القيامة: مقداره ألف سنة؛ من عَدِّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة؛ لِهوله، حسبما في سورة المعارج. اهـ.
قلت: والتحقيق، في الفرق بين الآيتين، أن الحق تعالى، حيث لم يختص بمكان دون مكان، وكانت الأمكنة في حقه تعالى كلها واحدة، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته، كان العروج إنما هو إليه على كل حال، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علقَ العروج بتدبير الأمور وتنفيذها، قرّب المسافة؛ ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة.
ولمَّا عَلَّقَ عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بَعَّدَ المسافة؛ زيادة في علو شأنه ورفعة قدره. وكل هذا العروج في دار الدنيا. على قول من عَلَّقَ {في يوم} بتَعْرج في سورة المعارج. فتأمله.
{ذلك عالمُ الغيب والشهادة}، أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت، وما شوهد في عالم الحس من عجائب عالم الملك. {العزيزُ}؛ الغالب أمره وتدبيره، {الرحيم}؛ البالغ لطفُه وتيسيره.
الإشارة: اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات، قطعة من نور ذاته، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش، ثم بالماء، فكان عرشه على الماء، ثم بالكرسي، ثم بالأرض، ثم بالسموات، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمداني رحماني من بحر جبروته، استوى به على عرشه؛ لتدبير ملكه، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته» وفي رواية: «على صورة الرحمن» وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده، ولرؤيته- باعتبار العامة-، وهذا التجلي كله، من جهة معناه، متصل بسائر التجليات، جزئي من جهة تشكيله للمعنى الكلي، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس: أن التجلي المستولي غَيْرُ مُرْتَدٍ برداء الحس؛ إذ لا عبودية فيه، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء، لأن كنزه ما زال مدفوناً، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل، وسَلِّمْ، إن لم تفهم، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقية، فتفهم أسرار التوحيد. وبالله التوفيق.


قلت: {الذي}: صفة للعزيز، أو: خبر عن مضمر. ومن قرأ {خَلَقَهُ}؛ بالفتح؛ فصفة لكل، ومن سَكَّنَهُ، فبدل منه، أي: أَحْسَنَ خَلْقَ كل شَيْءٍ.
يقول الحق جل جلاله في وصف ذاته: {الذي أحسن كلَّ شيءٍ خلقه} أي: أبدع خلق كل شيء، أتقنه على وفق حكمته. أو: أتقن كل شيء من مخلوقاته، فجعلهم في أحسن صورة. ثم {بدأ خَلْقَ الإنسان}؛ آدم {من طين ثم جعل نسله}؛ ذريته {من سلالةٍ} أي: نطفة مسلولة من سائر البدن، {من ماءٍ} أي: مَنِيٍّ، وهو بدل من سلالة، {مِّهِينٍ}؛ ضعيف حقير. {ثم سوّاه} أي: سوّى صورته في أحسن تقويم، {ونفخ فيه من روحه}، أضافه إلى نفسه، تشريفاً، إشارة إلى أنه خلق عجيب، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية، ولذلك قيل: من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم في سورة الإسراء، في الكلام على الروح، وجه المعرفة منه. {وجعل لكم السمعَ والأَبْصارَ والافئدة} لتسمعوا كلامه، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته، وتعقلوا، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم. {قليلاً ما تشكرون} أي: تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم؛ لقلة التدبر فيها.
{وقالوا}؛ منكرين للبعث: {أئذا ضللنا في الأرض}، أي: صِرْنَا تراباً، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن. أو: غبنا في الأرض بالدفن فيها، يقال: ضَلَلَ؛ كضرب، وضِلل؛ كفرح. وانتصب الظرف في {أإذا} بقوله: {أئنا لفي خلق جديد}. أي: أُنبعث، ونُجدد، إذا ضللنا في الأرض؟ والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف، وأسند إليهم؛ لرضاهم بذلك، {بل هم بلقاء ربهم كافرون}؛ جاحدون. لَمّا ذكر كفرهم بالبعث؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالبعث وحده. وقال المحشي: أي: ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة؛ لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى، ولا يصيرون إلى جزائه. اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أظهر الحق تعالى: من تجلياته الكونية؛ فهي في غاية الإبداع والاتفاق في أصل نشأتها، كما قال صاحب العينية:
وَكُلُّ قَبِيح إنْ نَسَبْتَ لحُسْنِه *** أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالُهُ *** فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
وأكملُها وأعظمُها: خلقةُ الإنسان، الذي خُلِقَ على صورة الرحمن، حيث جعل فيه أوصافه؛ من قدرة، وإرادة، وعلم، وحياة، وسمع، وبصر، وكلام، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس، وسخّر له جميع الكائنات، وهيأه لحمل الأمانة، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو في أسفل سافلين. قال الورتجبي: ذكر حسن الأشياء، ولم يذكر هنا حسن الإنسان؛ غيرةً، لأنه موضع محبته، واختياره الأزلي، كقول القائل:
وكم أبصرتُ مِن حُسْنٍ ولكن *** عليك من الورى وقع اختياري
قال الواسطي: الجسم يستحسن المستحسنات، والروح واحديةٌ فردانيةٌ، لا تستحسن شيئاً. وقال ابن عطاء في قوله: {ثم سواه...}: قوّمه بفنون الآداب، ونفخ فيه من روحه الخاص، الذي، به، فَضَّله على سائر الأرواح، لما كان له عنده من محل التمكين، وما كان فيه من تدبير الخلافة، ومشافهة الخطاب- بعد أن قال الورتجبي-: أخص الخصائص هو ما سقط من حُسْنِ تَجلِّي ذاته في صورته، كما ذكر بقوله: {ونفخ فيه من روحه}. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4